روح مبعثرة…مشتتة
رحلة ذهنية مرتبطة بصراعات أرواحنا الداخلية
سلسلة من المشاهد اليومية داخل أسوار كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، المكان الذي يمثل غايةً للكثيرين، ويثير الشكوك في الوقت ذاته إذا كان حلمًا جميلًا أم كابوسًا مرهقًا. هذه المشاهد تمثل سردًا شخصيًا لمشاعري المتقلبة خلال رحلتي داخل الكلية، الرحلة التي لم تنتهِ بعد
رحلة تجسد تحولي من الشك وعدم التأقلم إلى الشعور بالانتماء، ومن الإحساس بالغربة إلى اعتبار هذا المكان بيتًا. انعكاس لكيف يمكن لقراراتنا الشخصية أن تعيد تشكيل نظرتنا للحياة، وكيف أن الأيام التي نظنها الأصعب قد تتحول إلى الأجمل حين ننظر إليها من زاوية مختلفة
شعوري بالتخبط حيث حسبت أن الراحة تنتظرني كان بمثابة مرآة أجبرتني على التحديق في ذاتي، في أهدافي، وفي الشخص الذي أطمح أن أكونه. وألقت بي أمام سؤال لم أطرحه من قبل
أيجب أن أتحمل ما لا أطيق من مذهب أن لا شيء في الحياة سهل ، أم أن الصعاب تهون حين نحب ما نفعل؟ ويجعلها الشغف تستحق العناء؟
في البداية، كان التمسك بها مربكًا، فوجدت نفسي أتخذ قرارات لم تكن خاطئة، لكنها ليست الأنسب لي. ومع مرور الوقت، أدركت أن كل خطوة، حتى وإن بدت متعثرة، كانت جزءًا من الرحلة التي شكّلتني وأعادت تشكيل رؤيتي للأمور
أما هذه القصة، فقد وُلدت من تفاصيل يومية كنت أمر بها دون أن أجد الكلمات لوصفها : رموز الكلية، العبارات المنقوشة على جدرانها، الضوء والظل اللذان كشفا لي أشياء لم أكن أدركها عن نفسي. لحظة بعد أخرى، منحتني هذه المشاهد مساحة للبوح بما عجزت عن التعبير عنه، حتى أصبحت هذه الرحلة، وهذا المشروع، وسيلتي الوحيدة لترجمة ما لم أستطع قوله في تلك المرحلة من حياتي
مع مرور الوقت، أجد نفسي أعيش هذه التجربة مرارًا وتكرارًا نفس الشك، نفس الحيرة والتوتر، ونفس لحظة اتخاذ القرار، من أكبر الأمور إلى أصغرها. ما يمنحني الطمأنينة حينها هو إدراكي أننا نعيش حياة واحدة لن تتكرر، وأن هذا الإدراك يحركني بسلاسة لاختيار يمنحني الراحة، وما يسعدني
أن يُذكر عني بعد رحيلي
أفكاري وأحلامي لا تفارقني، تراودني بإلحاح كالضوء المتسلل بين المباني، يبحث عني ليذكرني كل يوم بأن الأشياء، مهما بدت معقدة وضخمة، تظل في جوهرها بسيطة. ورغم كل شيء، تظل محاولاتي لتغيير واقعي إلى الأفضل، لتحقيق أحلامي مع كل شروق جديد، رحلة لا تخسر قيمتها أبدًا،
لأن حياتنا — بكل ما فيها —تستحق
روح مبعثرة... تجربة صغيرة في عالمي انعكست على ذاتي وكل ما أراه من حولي
في ٢٠٢٠ مبروك ٧،٩٥٪، مبروك يا هندسة. كان الإحساس اللي هو "الله يبارك فيكم يا جماعة بس مش كده يعني". لما أخش الكلية وأتخرج يبقى هندسة والكلام دا مش دلوقتي. دا اللي اختلف عبارة عن دقايق من شاهين ... لهندسة، بس مفهوم أكيد إنها من فرحتهم بالنتيجة وبيا، بس أنا كان نفسي أخش فنون جميلة عمارة أو ديكور.
دخلت الكلية وأتسحلت فيها زي أي حد مش فاهم أي حاجة في أول ترم، بهرب من المذاكرة وكم الحاجات اللي عليّ، وبقابل صحابي في الكلية أو في كلياتهم، وبتعرف على أصحاب جديدة، وبسهر وبقضي وقتي، والإهتمام بمذاكرتي…
عدت الأيام والترم الأول خلص وبتقدير عالي، وهنا كان أول رد فعل حقيقي يظهر قدامي."بابا أنا جبت تقدير ٥٣،٣ يعني امتياز مع مرتبة الشرف في الترم دا." مكنش فيه مبروك ولا أي حاجة، هو كل اللي اتقال "بسم الله ما شاء الله يعني دا هيدخلك قسم إيه؟". يعني موقفتش عند الكلمة أوي، ولكن سكت. ولما أخد باله قال: "الله ينور، عقبال الترم الجاي إن شاء الله". قولت: آه إن شاء الله. عامة أقدر أخش كل الأقسام إلا كومبيوتر. فالرد كان: "شد حيلك بقى عشان تخش كهرباء إن شاء الله". ساعتها دار النقاش: إزاي وليه أصلًا؟ وانتهى النقاش بالتأجيل لحد ما الترم التاني يخلص.
بس هنا أتحول التفكير لإزاي مسمحش إن دا يحصل؟ وإزاي هعرف أوفر لنفسي البيئة إني أخد قراري لنفسي؟ وهعوز إيه الفترة الجاية؟ وهحققه إزاي؟ أصبح مفيش احتكاك بيني وبين أصحابي أو أهلي زي الأول، طول فترة الترم التاني، ومنعزل. كان كل همي إن الفتره دي تخلص وأخش القسم اللي هختاره أنا وبس.
مع ظهور النتيجة وبدأ التدخل يظهر تاني بس بشكل أقل بسبب زعلهم إني سقطت في مادة. والصراحة كنت مبسوط… ضيعت عليا قسم كهرباء، ولكن مفتوح ليّ كل الأقسام التانية. ولكن مع أول ما تم اقتراح قسم ميكانيكا كان الوضع محير جدًا.
بسبب فترة الانعزال وعدم تحقيق أي شيء في حياتك على مدار ٦ شهور متتالية، الثقة بالنفس بتبقى ضعيفة جدًا، وعايز بردو يبقى حواليك حد يهون عليك الأيام. صحابي كلهم كانوا بيقرروا يدخلوا ميكانيكا، وأنا كنت بقنعهم بردو: "قسم فيه كل حاجة وكل المجالات".
وبالنسبة لي قسم عمارة أصبح صفحة واتقفلت، ولو عايز أدخله هتأخر سنة، فكان القرار الأفضل هو ميكانيكا من وجهة نظري ونظر البيت ونظر صحابي.
ولكن مازال حبي لعمارة موجود، وأي حد بيسألني عليه بمدح فيه وأقول: "أنا بحب القسم دا بس أنا دلوقتي بحب ميكانيكا أكتر". ممكن كانت محاولة مني عشان أقاوم ما أحب ومبقاش خسران سنة وأستفيد وأأمّن مستقبلي.
دخلت ميكانيكا مبسوط وسط صحابي وناس كتير أعرفها وبيحبوني وأنا بحبهم، فكان الموضوع في أوله كويس أوي. وبدأت الدراسة والمحتوى العلمي بجد. وكل ما الوقت كان بيعدّي كنت بحس إن لأ… أنا مش مهتم ومش حابب معظم اللي حواليّا شغوفين بيه.
أنا بحضر وبفهم وبذاكر للامتحان، بس مش مبسوط ومش حاسس إن دي حياتي اللي كنت أحب أعيشها. والحياة والتعامل في القسم دا مش سلسلة، وكل واحد يشيل شيلته لوحده.
ساعتها خدت خطوة وقلت أسأل المعيدين اللي حواليّا:
"أنا نفسي أعمل كذا وادرس كذا وأمشي في الطريق دا، فهل دا ممكن يحصل من أساسه ولا مستحيل؟"
كانوا بيضحكوا دايمًا ويقولوا: "آه كنا زيك ونفسنا نعمل كده، بس دا صعب هنا وفي الظروف دي."
قعدت فترة بفكر: هل أصبر هنا ولا أخد خطوة؟
بس كنت كل ما بشوف صحابي في عمارة بيعملوا حاجة، كان بيبقى جوايا كلمة: "ياريتني كنت معاهم".
فقررت إني مش هصحى كل يوم أقول ياريتني تاني، وإنها حياة واحدة هعيشها زي ما أحب أحسن ما أموت ويقولوا عمل وسوى، ودا مش أنا أصلًا.
خلصت امتحان الرسم وأنا ناوي أمشي من القسم وأشوف إجراءات التحويل. فطلعت على منسقة قسم عمارة من غير ما أعرف مواعيدها ولا أي حاجة، رايح أجرب حظي وأتكلم معاها لو موجودة.
لقيتها موجودة، واتكلمت معاها ساعة، واكتشفت إنها كانت محولة من قسم كومبيوتر وبرضو كانت بتواجه نفس المشكلة أسريًا، ونصحتني أحول من غير قلق.
ولكن كان التحذير المستمر منها إني أعيد تفكيري تاني عشان التحويل هيأخرني سنتين، وإني مضطر أستنى لحد آخر السنة عشان أعرف أقدم طلب تحويل.
مكنش عندي مشكلة خالص، وكل همي إني أعيش حياة شبهي.
ومع أول فرصة في البيت واجهتهم وبلغتهم بكل اللي حصل واللي عايز أعمله، وهنا كانت بداية مشاكل كتيرة وخناقات في البيت…
من أول: "أنت بتضيع مستقبلك، واختيار غلط، وإحنا مش موافقينك على الكلام دا نهائيًا."
كنت هادي ومتأكد من خطوتي. فكانت المحاولات في الفترة دي:
"طالما سمعت من حد برا القسم، أسمع من حد تاني جوا القسم وشوف رأيه."
وقتها روّحت لدكتور عبدالسلام، دكتور في شعبة تصميم اللي بحبها ورئيس الكنترول. فهيبقى أحسن واحد ينصحني.
وعمري ما أنسى كلامه ولا الوقت اللي قضيته معاه في المكتب. وقال لي:
"هنا دنيا… وهناك دنيا تانية. لو متعلق بهناك مش هتعرف تمشي هنا. خد قرارك بدون توتر، وامشي ورا اللي بتحبه. واللي أنت عايز تعمله في ميكانيكا دا مش موجود في مصر خالص. وآدي رقمي يا سيدي… لو مشكلتك مع والدك واجهتك تاني لما تتكلم معاه مرة تانية، ولو منعك خليه يكلمني."
ساعتها اتجرأت أكتر وثقتي زادت، وبقيت واثق في خطوتي خلاص.
ومش موجود أي مشكلة إني أتأخر سنتين… المهم أبقى مبسوط ومرتاح في اللي بعمله.
وكان الرد ساعتها إن مفيش حد بيكلمني، وكله متضايق، ومصاريف السنتين دول "ملناش دعوة بيهم".
كانت محاولة عشان أرجع عن قراري… بس كانت محاولة ضعيفة جدًا.
عدت الأيام وخلص الترم وجبت امتياز في مادة، وباقي التقدير كويس قوي.
وفي آخر أجازة نص السنة جاتلي رسالة إن التحويل لعمارة مفتوح، ولكن النهارده كان آخر يوم لتقديم التحويل.
صحيت تاني يوم وجريت على الكلية هقدم طلب التحويل. بس معرفش إزاي، بس اتيسرت… واكتشفت إن التحويل مفتوح لحد الساعة ١٢، وأنا كنت بطبع استمارة التحويل وبسلمها الساعة ١١.
وسلمتها على خير.
قعدت أسبوعين كل يوم في الكلية: حبة بحضر في عمارة، وحبة بحضر في ميكانيكا، وفي الغالب ولا بحضر هنا ولا هنا.
بس كل ثلاثاء وأربعاء الصبح لازم أروح للمنسقة في المكتب أشوف نتيجة التحويل هتظهر امتى؟!
لحد في الأسبوع التالت ظهرت نتيجة التحويل.
تم تقديم ١٧ طلب تحويل، وتم ترتيبهم بالنسبة للتقدير العام، وتم قبول أول ١٠ طلاب، وأنا الطالب رقم ١٠… آخر طالب اتقبل.
اتقفل التحويل بعدي وبقيت طالب في عمارة رسميًا.
صحيت من النوم يومها لقيت رسالة بتقولي:
"مبروك يا معماري."
الحمد لله.
بلغت والدتي وروحت على الكلية.
وعمري ما أنسى رد فعل والدي لما عرف، وسمعت صوته:
"يعني خلاص حول رسمي؟!"
أنا سمعت وابتسمت… وهو ساعتها كان داخل في شهرين مش بنتكلم.
وفضل شهرين غيرهم مش بيكلمني.
حولت ودخلت القسم. ومع أول كام يوم كنت غريب عليهم، بس مع الوقت عرفتهم وعرفوني، وبقيت وسط ناس بيحبوني وبحبهم، وبقيت عايش الحياة اللي كنت بقول "ياريتني" فيها.
الأكيد إن مفيش حاجة سهلة، والدنيا مش جنة. ودي حاجة بسيطة بنعملها عشان تهوّن علينا حياتنا.
ولما تشتغل حاجة بتحبها هتستحمل قرفها وتعبها حتى لو أكتر بكتير من حاجة تانية مش بتحبها.
ودا أثبتته الأيام مع تقبلي للدراسة والشغل ٩ ساعات يوميًا لمدة سنة ونص… عادي، من توفيق ربنا أكيد عشان أنا هنا ومؤمن مليون في المية إن المكان دا مكاني.
والأكيد إن لما بتبقى مرتاح وحابب حاجة نفسيًا، بتبقى أفضل، ومشاعرك بتختلف اتجاه المكان.
نفس المكان اللي كان فيه كل مواقف صعبة وشايفينه مظلم… هو هو المكان اللي مبسوطين إننا عايشين فيه دلوقتي، وعايزين نروحه كل يوم.
فمقتنع تمامًا إننا واجب علينا نساعد نفسنا إننا نعيش اللي بنحبه عشان نجرب تجربة لحياتنا مش هيبقى فيه زيها.