




استكشاف الانفصال
استكشاف الانفصال
بواسطة محمد عبد الرحمن






انطلقتُ في جولةٍ سيرًا على الأقدام بنيّة التقاط ملامح اندماج التكنولوجيا في حياتنا، تاركًا الشوارع تقودني. حمّلتُ فيلمي الأبيض والأسود المنتهي صلاحيته منذ عام 1996 في كاميرتي الأنالوج، ثم تجولت في هذا العالم السريع الإيقاع. في أواخر التسعينيات، لم تكن الصلة بين الناس فورية؛ كانت تأتي في مظاريف، ومكالمات يُتَّفق عليها مسبقًا، ولفائف فيلم، لا في إعجابات أو إشعارات. هناك دائمًا شيء ما في المساحات التي نعبرها مسرعين. وكل ما يلزم هو أن نبطئ، نراقب، ونبحث عن تلك العلامات الخفية.
حدثتني الوحدة الهادئة من حولي؛ أشخاص ينتظرون وسائل النقل، وعيونهم مثبتة على شاشات متوهجة. نحن نتواصل، لكن بطرق تجعلنا نشعر بأننا أبعد عن اللحظة. خطوط هاتف مشغولة، يخاطبون العائلة، والأحبة، والأصدقاء، والمجتمعات. الاتصال الهشّ هو تشتيت أكثر منه رابطة عميقة، هناك ألفة لطيفة تجعلني أستحضر جهاز الدردشة، يمكن لمكالمة من صوت مألوف أن تهدئ قلق الوحدة، حتى في أكثر الأماكن ازدحامًا وأمانًا. كان والدي بعيدًا، بعيدًا جدًا، مجرد صوت يتردد على فترات، لكنه كان يجلب فرحًا وطمأنينة لا توصف لأبنائه.
كلما توغلت أكثر داخل المدينة، أرى الناس كشخصيات في حكايتي، رجلان مسنان يجلسان كلّ منهما على هاتفه، كل غارق في عالمه الرقمي، بينما فتى صغير كان مشغولا ببطة، بطريقة شبه تأملية.
ثم صادفتُ مقهى بلايستيشن. كان الضوء الوحيد ينبعث من الشاشات الساطعة للتلفزيونات، والضوضاء العالية تملأ الأجواء، بينما تلتف مجموعات من الشباب حول الشاشة مثل الفراشات حول المصباح، يتناوبون على لعبة سباق. بدا المكان وكأنه مجتمع صغير، يربطهم بالآخرين من خلال الشاشة؛ فالآلة لم تكن سوى أداة للتقارب وبناء الصداقات. هذا هو عالمهم، شاشات ومساحات افتراضية تمنحهم شعورًا بالاتصال.

















أثناء تأملي في كيف كانت أمي تلتقط لحظات ضحكنا ولعبنا بكاميرتها الفيلم وترسلها عبر البحر إلى والدي، كانت مغلفة بالدفء والبساطة. وكان يرد عليها بصور من رحلاته وأيامه، مع تعليقات طويلة عاطفية مكتوبة خلف كل صورة.
تابعت طريقي حتى وجدت نفسي أمام محل صغير مليء بأكوام من التلفزيونات القديمة والمكسورة ويجلس رجل مسن بينها، وكأنه يحرس بقايا شاشات محطمة. لم أستطع تجاهل التناقض بين هذين المكانين في نفس الشارع، بينما سألني الرجل عما أفعله، ودرت بيننا محادثة قصيرة عن المشروع، وعن الحاجة الملحة للانفصال قليلًا عن العالم الرقمي.
هذه الأجهزة كانت يومًا ما وسيلة تقرب بين الناس، لكنها الآن مهملة. أدركت أننا انتقلنا من الاتصال عبر متع بسيطة مثل ألعاب الطاولة والغميضة إلى فقدان أنفسنا وسط وهج الأضواء السريعة وأصوات الإشعارات. نشتاق إلى ذلك الشكل من الحياة؛ حيث كانت الضحكات تتردد في ساحات اللعب، وحيث كنا نجري بحرية بلا هموم، بلا ارتباط بشاشة متوهجة.
تحدث الشارع مرة أخرى:
الشاشات الساطعة تجذب الناس
أما المكسورة فتُترك وراءهم
والمسافة بين الاثنين ليست بعيدة، ومع ذلك تبدو بعيدة المنال
لم تنتهِ رحلتي بعد؛ واصلْتُ السير حتى شدّتني مشاهد المفاتيح الكهربائية وعلب الكهرباء داخل محل كهرباء صغير. من المدهش كيف يمكن لزرّ تشغيل / إيقاف بسيط أن يثير فيك هذا الكم من الأسئلة: هل نكتسب القوة حين نفقدها؟
وفي منطقة جديدة، كان النهار هادئًا رغم أنني أسير قرب الكورنيش عند البحر. لم أجد فرصة لأنتهك المساحة الشخصية لأحد لالتقاط صورهم مع هواتفهم. لكنني التقطت صورة لرجل كان يلتقط بدوره صورة، والبحر خلفه إطارٌ طبيعي. في تلك اللحظة تساءلت: لماذا نلتقط هذه اللحظات باستمرار، إن لم يكن بحثًا عن شعور بالصلة؟ وإن لم يكن كذلك، فهل يسكن حبّنا حقًا في هذه الصور الملموسة، الدافئة بين أيدينا؟
هذه الأيام، اللحظات تُلتقط عبر قصص منصة إنستغرام أو صور رقمية… غير ملموسة. مجرد ضغطة واحدة يمكن أن تمحوها إلى الأبد، كأن الذاكرة نفسها لم توجد يومًا، بلا أي وسيلة لاستعادتها.


فنّ الموازنة.
في أثناء هذه الرحلة، لم أكن أتجول في الشوارع فقط؛ كنت أحاول الموازنة بين عملي اليومي ومسعاي الفني. أعمل في مكتبة تحيط بي الكتب من كل جانب، وبتّ أدرك كم أصبح من النادر أن ترى أحدهم يحمل كتابًا بدلًا من هاتف. نعم، الكتب الإلكترونية موجودة، لكنها لا يمكنها أن تحل محلّ شعور الإمساك بكتاب بين يديك.
هذا المشروع كان انعكاسًا لصراعي الداخلي. بين العيش داخل عالم رقمي، والسعي إلى صلة حقيقية، وجدت لحظات بدت أقرب إلى تأمل ذاتي منها إلى استكشاف تصويري. لحظات صغيرة وهادئة، مثل مشاكسات مرحة بيني وبين ابنة أختي على الكاميرا أو الهاتف، حين أدركتُ مدى انخراط هذا الموضوع في حياتي اليومية، فلقد كان جزءًا من واقعي.
من خلال كل هذه التجارب والتوترات والتأملات، خلُصتُ إلى أن الصلة ليست مجرد وجودنا جسديًا معًا. إنها أن نكون حاضرين حقًا مع الآخر؛ أن نعيش اللحظة بصدق، سواء كنا نلعب لعبة عبر شاشة أو نوثق ذكرى من أجل منصة إنستغرام.
ليس المهم كيف نرتبط… بل لماذا.
أن نسعى إلى اتصال حقيقي، لا أن نسقط في دوامة الاستهلاك المفرط لوسائط الميديا والتكنولوجيا، خاصة حين نكون أكثر هشاشة أمامها.كيف نُبحر في هذا التوازن بين العالم الافتراضي والعالم الحقيقي؟ بين سطوع الشاشات وهدوء الصلة الإنسانية؟
يمكن أن نشعر بالانسجام، وتجاوز الزمن، والمزاج الإيجابي دون أن ننجرّ نحو إساءة الاستخدام أو الإفراط. ولهذا، فالاتصال الحقيقي مهم، ويتطلب أن ننظر في عيون بعضنا، لا من خلال فلاتر الأجهزة والشاشات، بل وجهًا لوجه، حتى نتمكن من أن نرى الآخر حقًا… نفهمه… ونشعر بحضوره.





















