أهلاً بكم في أطلس شعبي. تحتوي صفحات المشروع على عناصر غير متاحة للعرض عبر شاشة الهاتف المحمول. لذا، لضمان حصولك على أفضل تجربة، نوصي باستخدام حاسوبك أو شاشة الكومبيوتر.
الحرث فى البحر
بواسطة أحمد ناجي
أحد صباحات الإسكندرية ذات السماء الزرقاء المزينة بقطع السحاب المتناثر أمام أحد الشواطئ ذو الرمال البرتقالية الدافئة، تقف معدة ثقيلة كبيرة تهدم أحد المساطب المخصصة للجلوس أمام البحر، مصدرةً صوت مزعج عنيف عالي متقطع، مكتوب على هذه المسطبة كلمة الإسكندرية باللغتين العربية والإنجليزية تظهر مكسورة غير مكتملة، تنظر إلى بقاياها على الأرض و ترفع أسياخ الحديد التي كانت تحملها إلى السماء.
قبل ٢٠ عام، في شهور الصيف الحارة الرطبة، كان الجد يأخذ أحفاده إلى شاطئ سيدي بشر الواسع شرق المدينة، يحكي لؤي الحفيد: "كانت الرحلة القصيرة إلى الشاطئ واحدة من عاداتنا الصيفية، نحمل متاعنا الشمسية والكراسي ونذهب مشيًا بحماس وسعادة صباحًا، ونعود وقت الغروب بتعب وإنهاك وثقل الأمتعة على أكتافنا". انتهت هذه العادة بموت الجد، لكن الأحفاد لن يقدروا على استعادة هذه الرحلة مرة أخرى، ولو حتى لإحياء ذكرى الجد، لأن هذا الشاطئ اختفى عام ٢٠٢٣ بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر.
هذا الشاطئ يحمل أيضًا معه ذكرى قبلتي الأولى للفتاة التي أحببتها وذكريات طفولتي التي تشبه ذكريات لؤي ونتشاركها جميعًا في المدينة. عندما رأيت مشهد غرق هذا الشاطئ لأول مرة، أدركت أن إنكارنا لحقيقة أن المدينة سوف تغرق لن يجدي، وشعرت بالحزن والعجز وتذكرت عشرات المقالات التي تنبئ بغرق مدينة الإسكندرية خلال السنوات القادمة، كما يشير موقع earth.org في عرضه لخريطة تحاكي الغرق الذي سوف يبتلع المدينة بأكملها عام ٢١٠٠، وغرق هذا الشاطئ هو بداية فعلية ملموسة لمستقبل المدينة.
تقول الباحثة ياسمين حسين من مركز دراسات الإنسان والمدينة السكندري أن الشواطئ التي تقلص عددها بسبب العوامل الطبيعية وصل إلى ٤٠٪ من مجمل شواطئ المدينة خلال السنوات الثلاثين الماضية.
غير بعيد عن شاطئ سيدي بشر الغارق، تجلس أسرة قادمة من مدينة قريبة من الإسكندرية لقضاء أيام من عطلة الصيف في شاطئ ميامي، يسبح الأخ الأكبر في البحر بالقرب من مكان جلوس أسرته، وبجانبهم الابن الأصغر يصنع مجسمات من الرمال المختلطة ببقايا عمليات بناء، تحت ظل ثقيل لكوبري عبور سيارات مبني على رمال الشاطئ، يتصارع صوت الأمواج مع صوت السيارات المارة أعلاهم. لم تعتاد هذه الأسرة ولا باقي الأسر على هذا المشهد منذ عدة سنوات، الكوبري المبني حديثًا لتيسير حالة المرور على طريق الكورنيش حجب عنهم أشعة الشمس وضيق أفق السماء الواسع.
في دراسة حديثة تبحث عن أسباب انهيار العقارات المتزايد في الإسكندرية الذي بلغ ٢٨٠ مبنى على مدار العقدين الماضيين، اكتشفت الترابط بين تراجع الشاطئ وهبوط الأرض وانهيار المباني، وأشارت نتائجها إلى أن الانهيارات مرتبطة بالتآكل الساحلي الشديد الناجم عن اختلالات الرواسب الناتجة عن عقود من الإدارة غير الفعالة للمناظر الطبيعية والتوسع الحضري على طول الواجهة البحرية للمدينة.
ويؤدي هذا التآكل الشديد، مقترنًا بارتفاع مستوى سطح البحر، إلى زيادة تسرب مياه البحر، مما يرفع منسوب المياه الجوفية في طبقات المياه الجوفية الساحلية، ويؤدي ذلك إلى تدهور استقرار الأرض وتسارع تآكل أساسات المباني، مما يؤدي في النهاية إلى انهيارها. وقد حددت الدراسة منطقة ساحلية شديدة التأثر في الإسكندرية، تضم أكثر من 7000 مبنى معرض للخطر، متجاوزةً بذلك أي منطقة أخرى معرضة للخطر في حوض البحر الأبيض المتوسط.
"أتذكر شاطئ كليوباترا كان به كبائن وكنا نجلس على رمله، وكان يوجد جزيرة صغيرة بالقرب من الشاطئ، كان الشباب يتسابقون سباحة إليها، الآن لم يعد هذا موجود"، سكت رافي صديقي قليلاً، ثم أضاف: "أصبحت كتل خرسانية". كنا نجلس على أحد هذه الكتل الرمادية الصلبة نتأمل البحر، عندما أشار إليه وقال: "كان يوجد هنا شاطئ".
في وسط المدينة تتراص الآلاف من الكتل الخرسانية الرمادية المكعبة الصلبة، "أراها متاريس تفصل بيننا وبين البحر" قالها رافي. تجلس تلك الكتل المصحوبة بلافتات "خطر السباحة" بدلاً من البشر على الشاطئ منذ التسعينات في القرن الماضي، عندما بدأ مشروع توسعة طريق الكورنيش للسيارات لحماية الخط الأمامي للمدينة من هجمات العواصف البحرية. يصف رافي: "المشكلة ليست في الشواطئ بل في إنسانة المدينة، المدينة أصبحت تخدم المركبة لا الإنسان، كما أصبح جزء من شاطئ الشاطبي جراجًا للسيارات".

يتابع رافي حديثه عن علاقته بالكتل الخرسانية، أنها حجبت رؤية البحر في عدة مناطق في المدينة، ويقول: "يحدث هذا الآن مجددًا في شرق المدينة، تتوسع الطرق على حساب الشواطئ، وأتوقع أنه سيأتي يوم قريب لن نجد شواطئ في الإسكندرية". من خلال حصري لعدد الشواطئ المتبقية في المدينة هذا العام مقارنة ببداية التسعينات، وجدت أننا فقدنا ١٠ من أصل ١٥ شاطئًا في الإسكندرية. نحن نرى مستقبل المدينة من ماضيها.
صغار على الشاطئ يبنون قلاع الرمل فرحين وغير مبالين ونعجب بما أنجزناه على هشاشته، نتشارك البناء والفرح وندافع عنه من أمواج البحر المتلاحقة التي تسعى لهدم قلعتنا، صراع دائم بين البحر وبين قلعة الرمل ينتهي لصالح الأمواج التي لا تستسلم. عالم الشاطئ المليء بقلاع الرمل التي ذهبت أمام إصرار البحر على هدمها كان درسًا لأهمية اللحظة والحضور فيها والاستمتاع بها على الرغم من حتمية الهزيمة.
في يوم الثلاثاء ٢٠ أغسطس ٢٠٢٤ تم هدم الحوض الجاف وطابية الدخيلة، أقدم أثر مملوكي مسجل في الإسكندرية الموجود في شاطئ الدخيلة غرب مدينة الإسكندرية، هذه المرة لم تسقط القلعة بسبب موج البحر.
شاطئ الدخيلة أكثر شواطئ الإسكندرية تفردًا واستقرارًا، تفرش رمال البحر واحدة من أكبر المساحات الشاطئية في الإسكندرية، يستقر بها بقايا طابية الدخيلة وحوض جاف منذ ٣٠٠ عام، يرقد بجانبها اثنان من المدافع الأثرية تحت ظل شجرة تطل على الشاطئ من طراز أرمسترونج.
الشاطئ الواسع الذي يحتوي على بقايا تاريخ ظلت تراقب حركة الزمن على جيرانها وعليها أيضًا لمئات السنين، أصبح تاريخها جزء من تاريخ هؤلاء الناس، تاريخ به دماء وحروب وقصف ودمار وموت، لكن أيضًا تاريخ شعبي محكي في المجالس الحميمة وبين الأصدقاء عن لقاء في الشاطئ أو صورة بجانب المدفع أو قبلة خاطفة بين الأمواج، أو حكايات ملعب كرة القدم الموجود بالشاطئ عشرات السنين، صيحات الفرح بالبحر وصيحات وداع غريق، تاريخ يحكينا وأي تغيير فيه يغير من حكاياتنا وربما مصيرنا.
في بداية عام ٢٠٢٤ م صدر قرار بإنشاء الميناء الأوسط (ميناء المكس) الربط الجغرافي بين مينائي الإسكندرية والدخيلة بطول ٧ كم، بما فيهم مساحة شاطئ الدخيلة، في هذه اللحظة شعرت أن علي التوجه لوداع هذا الشاطئ ووداع آثاره، ولم أكن وحيدًا على الشاطئ بل قابلت العديد من أهالي الدخيلة موجودين لأخذ صور تذكارية لهم في المكان، صورتها لهم بنفسي.

من من قابلتهم على تلة آثار الطابية الشاب الدخلاوي فارس، وتحدثت معه حول ما قيل بشأن المنطقة، استأذنته في التسجيل لترك صوته، هو يحكي لي في المكان عنه وعن ذكرياته، وعلى خلفيتنا صوت المكان الحي بالناس والهواء.

عبر لي فارس عن تأثر السكان وحزنهم بسبب هذا القرار، بل إن هناك سكانًا سوف يتركون منازلهم بسبب المشروع وينتقلون إلى منطقة بشاير الخير التي تبعد عشرات الكيلومترات بنتها الحكومة محل بعض المناطق العشوائية.
على بعد أكثر من ٧٠ كيلومترًا جنوبًا، وفي الظهير الصحراوي للمدينة، تحديدًا على تلة ترتفع حوالي ١٥ مترًا، اختار والد منى مجدي مكانًا بدا وكأنه ملاذ آمن من كارثة محتملة، الدكتور مجدي رأى في هذا الموقع، الذي يبدو في مشهد أشبه بنهاية العالم، المكان المثالي لبناء منزل خاص يوفر الأمان لعائلته.

يبدو المنزل، ذو اللون الترابي الذي يعكس البيئة المحيطة، خاليًا من الدفء، يتوسط حديقته مسبح صغير للأحفاد، وإلى جانبه نباتات أساسية كالطماطم والبصل. صمم الدكتور مجدي هذا البيت قبل عشر سنوات بنظام صرف مياه متقن لمواجهة أي خطر محتمل للغرق، وقام بتأثيثه بالضروريات، ورغم زياراته شبه الأسبوعية تصفه منى بأنه يفتقر إلى الحياة، وتعبر عن عدم حبها له، لكنها تتساءل عما إذا كان سيصبح ملجأً حقيقيًا في حال وقوع الكارثة.
على الرغم من هذه الخطوة الاستباقية والنادرة والواعية التي أقدم عليها والد منى لمواجهة خطر قد لا يواجهه أبدًا، فإنها تشعر بالوحشة في هذا المنزل، وتؤمن بأن النجاة لن تكون فردية، فحتى لو نجت هي وابنتها وإخوتها وأبناؤهم، فمن سيكون معهم في ذلك المكان؟